يتواصل في الساحة السورية صراع الإرادات والمعركة على فرض الخطوط الحمراء، بين إسرائيل وأعدائها. ومع التسليم ابتداءً، بأن الجانبين معنيان بمستوى من الصدامات لا تتحول إلى مواجهات واسعة، الا أن فرضية التصعيد الشامل تبقى قائمة، وربما زادت احتمالات تحققها في ظل التطورات الأخيرة. التسليم الإسرائيلي بمآلات الحرب وعودة بسط سيادة النظام السوري على أراضيه، تسليم لا رجعة فيه، سواء أعلنت تل أبيب ذلك بصوت عال أو خافت أو حتى امتنعت عن الاعلان بالمطلق. وإذا كان التسليم من عدمه لا يغير في المآل شيئاً، إلا أنه يدخل في معادلة وموازين حرب جديدة، من نوع آخر، وترتبط بمصالح إسرائيلية في منع تشكل تهديدات على الجبهة الشمالية، في اليوم الذي يلي الحرب، وتحديداً ما يرتبط بالوجود الإيراني العسكري والحلفاء، في سوريا.من جهة إسرائيل، باتت المقاربة شبه محصورة في مواجهة ما تسميه «التمركز الإيراني» في سوريا، مع الإعلان أنها ستتعامل معه كخط أحمر لا يمكن القبول به، مهما كانت الأثمان. في مقابل ذلك، يوجد إصرار إيراني على الوجود في الساحة السورية باتفاق مع الدولة السورية نفسها، في إطار اتفاقات و«رضى» متبادلين، ومبنيين على السيادة السورية واستقلال قراراتها وتحديد مصالحها، كما تراها هي بلا اشتراطات وإملاءات وضغوط خارجية.
وإذا كان الخط الأحمر الإسرائيلي هو «التمركز الإيراني»، فإن الإملاء الإسرائيلي ومحاولة فرض الإرادة خط أحمر ومرفوض إيرانياً. وإذا عمد الجانبان إلى التمسك بخطوطهما الحمر، من دون سعي إلى تسوية أو تعايش أو تراجع لأي من الجانبين، فإن المواجهة مقبلة لا محالة. يزيد من احتمال المواجهة أن إسرائيل تعمل، بين الحين والآخر، على استهداف ما يرتبط بالوجود الإيراني وإن بات بوتيرة ومستوى محدودين، في أعقاب المواجهة الأخيرة بعد العدوان على مطار «T 4» في نيسان الماضي. في مقابل ذلك، تعمل إيران وتسعى بشكل دائم وحثيث، كما تقول إسرائيل في حدّ أدنى، على التمركز في سوريا، في مختلف الاتجاهات والمستويات، وعلى امتداد الجغرافيا السورية.
منطقياً، التمسك بالخطوط الحمر المتقابلة والمتناقضة يؤدي إلى التصادم، من دون اقتصار التصادم على مستويات منخفضة من المواجهة. وهو ما حاولت إسرائيل أن تتجاوزه، عبر «المجازفة» بإمكان توسعة الاعتداءات وإسقاط خسائر بشرية، لتعود وتستقر على المعادلة الأولى المنخفضة المستوى، بعد الرد الصاروخي اللاحق.
ويبدو أن الجانب الثاني يتجاوز الاعتداءات، ربطاً بالظروف القائمة ولزوم وضرورات الحرب السورية، مع إدراكه المسبق محدودية فاعلية الهجمات الموضعية المدروسة من دون خسائر بشرية، رغم أن يده ستكون رخوة على الزناد، في حال توسعة مروحة الاستهداف، حال رهانات إسرائيلية خاطئة، كما حصل في الاعتداء على مطار «T 4» سابقاً.
أيضاً من ناحية إسرائيل، الهجمات الموضعية وتكرارها، وإن كانت لذاتها قيمة مستقلة، ورغم إدراك محدودية فاعليتها وتأثيرها العام على المشهد الكلي، إلا أنها مقدمة ضرورية لدفع الآخرين، وتحديداً «الصديق» الروسي عبر الضغط عليه، كي يعمل على تحقيق المصالح الإسرائيلية، أو الجزء الأكبر منها. تراهن إسرائيل في ذلك على خشية موسكو على مكتسباتها المحققة في الساحة السورية، وكذلك على المكاسب المقبلة في طور التحقق.
والتوجه الإسرائيلي نحو «الصديق» الروسي، هو توجه مجبول من مكونين: تظهير التوثب العسكري و«التوسل» الديبلوماسي. ولم تكن تل أبيب لتتجه إلى موسكو، توثباً وتوسلاً، إلا بعد أن أدركت وقدّرت استمرار التوجه التراجعي للوجود والنفوذ الاميركيين في الساحة السورية، وصعوبة، إن لم يكن انتفاء، الرهان على الحليف الأميركي لاجتثاث تنامي محور المقاومة في سوريا.
الجانب الروسي، حليف إيران الفعلي على الارض، وصديق إسرائيل في الوقت نفسه، معني بإيجاد تسوية ما بين الجانبين، تعنى بدفعها للتعايش مع ضوابط، تمنع المواجهة الكبرى بينهما، بما يشمل أيضاً المواجهات الموضعية المحدودة، التي قد تتحول تدحرجاً إلى مواجهة واسعة، من شأنها أن تجر إليها الدولة السورية حكماً.
من ناحية روسيا، هي معنية بتلبية ما أمكن من مصالح إسرائيلية، بالمستوى والقدر المعقولين، شريطة أن تكون في متناول اليد، ومن دون الإضرار بالمصالح الروسية نفسها. وهي معنية بالعمل بين حدين، بين مطلب الصديق وحزمه، وامتناع الحليف وثباته. على ذلك، هي تسعى إلى إيجاد «تسوية» ما مع الجانب الإيراني وحلفائه، من شأنها الإبقاء على تقاطع المصالح (في حد أدنى) على مستوياتها الحالية في سوريا، أو ما يقرب منها، وتحديداً ما يتعلق بمرحلة ما بعد الحرب السورية، وهي «التسوية» التي لا يبدو أن الدولة السورية بعيدة عنها، وعن إرادتها. روسيا المعنية بعدم «إزعاج» إسرائيل وتحقيق ما أمكن من مصالحها، معنية أكثر بتحقيق مصالحها أولاً، خاصة أنها لا تقصر نظرتها وأفعالها واستراتيجياتها على الساحة السورية من دون النظر إلى كل الساحات. وفي هذه المناطق، الأكثر استراتيجية من ناحية روسيا، تبادل حاجات وتخادم، على أكثر من صعيد.
على ذلك، بات بالإمكان فهم محاولة «التسوية» الروسية والدفع نحو «التعايش القسري» إن أمكن بين الجانبين، من خلال الاتفاق الروسي الإسرائيلي ما قبل الأخير، الذي لم يكن الأول، المبني على تبادل المصالح بتمكين دمشق من بسط سيادتها على الجنوب السوري، مقابل إخراج الإيرانيين وحلفائهم عشرات الكيلومترات بعيداً عن الحدود في الجولان. وهو الاتفاق الذي رفضته الدولة السورية، بعد أن ربطت تنفيذه بانسحاب أميركي من الأراضي السورية. على ذلك أيضاً، بات بالإمكان فهم إعادة المحاولة الروسية، قبل أيام، خلال الزيارة الخاطفة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى إسرائيل مصحوباً باقتراح اتفاق جديد عرضه على الإسرائيليين، يشمل التزامات متبادلة بينهم وبين أعدائهم في سوريا، وبما يشمل الدولة السورية نفسها. بحسب ما نشر أخيراً في إسرائيل (موقع مونيتور بنسخته العبرية)، نقلاً عن لسان ضابط إسرائيلي رفيع جداً: «عرض الروس إبعاد القوات الإيرانية وحزب الله مسافة مئة كيلومتر عن الحدود، مقابل تعهد إسرائيلي بوقف الهجمات في سوريا». رفضت إسرائيل، بحسب المصدر العرض، وأعربت عن الاحتفاظ بـ«حقها» في مواصلة الهجمات، ما لم يجر إخراج الإيرانيين وحلفائهم خارج الجغرافيا السورية.
يشير تقرير الـ«مونيتور» إلى أن إسرائيل أجابت سلباً، ورفضت بـ«طريقة مهذبة وحازمة» في الوقت نفسه: «رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن أفيغدور ليبرمان، ورئيس الأركان غادي آيزنكوت، قالوا للروس إن إسرائيل لن تقبل بوجود إيران أو حزب الله في كافة أنحاء سوريا، وهي تحتفظ بحقها في مواصلة معالجة هذا الوجود بقواها الذاتية. الروس استمعوا وعادوا بخفّي حنين».
قد يكون هذا هو آخر «العروض» الروسية لإسرائيل، وقد لا يكون. لكن من ناحية تل أبيب، يبدو واضحاً أن العرض، ما دون الإخراج الكامل ومنع «التمركز» الإيراني في سوريا، غير مقبول من جهتها، إذ إنه سيشكل تسليماً منها، وعملياً باتفاق مكتوب مع الجانب الروسي، ببقاء التهديد وتناميه في سوريا. قبولها بالاتفاق كما ورد، من وجهة نظرها، لا يغير من التهديد ومنسوبه وإمكان تناميه، حيث لا قيمة فعلية للمسافات الجغرافية، داخل سوريا، مهما كان البعد عن الحدود، ربطاً بالوسائل القتالية الأكثر تطوراً، التي لا تعرف المسافات.
هو عود على بدء؟ أو إلى تموضع جديد بين الجانبين، مع رفع إمكانات الصدام والمواجهة؟ واضح أن إسرائيل معنية بمواصلة الضغط، رغم أنها مقبلة على فقدان ورقة الجنوب السوري والجماعات المسلحة فيه، الأمر الذي يزيد، في المقابل، من عوامل القوة والثبات لدى أعدائها. هذا إن لم يؤد أيضاً إلى تراجع في مستوى «تلهّف» الصديق الروسي لإيجاد تسويات.
هل تقتصر النتيجة، بعد رفض إسرائيل للعرض الروسي، على العودة إلى نقطة البداية، بما يشمل ويقتصر على الهجمات الموضعية «المحمولة»، أو المجازفة باتجاه الرهان على الضغط أكثر من خلال الترقي درجة أو درجات والإقدام على تنفيذ أفعال عدائية من شأنها، وربما على الأرجح، أن تتسبّب في التدحرج نحو مواجهة واسعة؟ مواجهة قد لا تقتصر على قتال بيني، في ساحة واحدة.