في أعقاب تخفيض تركيا حدّة تصعيدها الميداني في الشمال السوري، إفساحاً في المجال أمام الوساطتَين الأميركية والروسية لإثبات جدواهما، بدأت الولايات المتحدة، على نحو سريع ومكثّف، العمل على تعزيز حضورها في شرق الفرات، بل والاستعداد للعودة إلى مناطق كانت انسحبت منها قبل ثلاث سنوات. والظاهر أن الرجوع الأميركي إلى مدينة الرقة خصوصاً، والذي تؤشّر إليه معطيات عديدة من بينها العمل على تنمية نفوذ عربي مُوازِ لذلك الكردي، تحدوه الرغبة في منع أيّ محاولة تَقدّم روسية أو سورية حكومية نحو معاقل النفوذ الأميركي، سواءً وقعت العملية التركية البرّية في نهاية المطاف أم لم تقع البتّة. وهي رغبةٌ تتجلّى أيضاً في السعي لترسيخ وجود «الإدارة الذاتية» كأداة رئيسة وفاعلة في «محاربة الإرهاب»، وإضفاء طابع «شرعي» على سلطتها، بهدف منع أيّ خطوات لاحقة لإنهائها، بل ودفْع أنقرة إلى الانفتاح عليها مستقبلاً
تحت غطاء «محاربة الإرهاب»، كثّفت القوّات الأميركية نشاطها الميداني في سوريا خلال الأيام القليلة الماضية، سواءً عبر تسيير دوريات مشتركة مع «قسد» بعد فترة انقطاع على خلفية التهديدات التركية بشنّ عملية برّية جديدة في الشمال، أو عن طريق استقدام تعزيزات كبيرة إلى القواعد الأميركية، وتجهيز أخرى قديمة لإعادة استعمالها، من بينها اثنتان في الرقة. وتُظهر واشنطن اهتماماً كبيراً بالرقة على وجه الخصوص، في ما يبدو محاولة منها لترسيخ الوضع القائم في المحافظة الواقعة قرب الحدود التركية، بهدف إفشال أيّ تطوّر سياسي مستقبلي يؤدّي إلى تغيير خريطة السيطرة القائمة حالياً هناك. وبحسب مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن الولايات المتحدة تتعمّد تظهير نشاطها في الرقة بشتّى الوسائل، لافتةً إلى تكثيفها الدوريات المشتركة مع قوات «قسد»، وإجرائها سلسلة لقاءات مع وجهاء وأحزاب ينشطون في المحافظة، من بينها «حزب المستقبل» المدعوم من قِبَلها، بالإضافة إلى لقاءات مع فصائل من مكوّنات عربية، على رأسها فصيل «ثوار الرقة»، الذي التقى مسؤولون أميركيون زعيمه، أحمد علوش، في مقرّ «الفرقة 17» قرب مركز المحافظة، تمهيداً، على ما يبدو، لإعادة إحياء هذا الفصيل، وخلْق توازن عربي - كردي يمكن من خلاله ضبْط الأوضاع داخلياً، وإرضاء أنقرة التي تشتكي النفوذ الكردي المتزايد قرب حدودها.
أجرى مسؤولون أميركيون سلسلة لقاءات مع وجهاء وأحزاب ينشطون في محافظة الرقة


وفي الإطار نفسه، تشير المصادر إلى أن الولايات المتحدة، وضمن خطّتها لإعادة الانتشار في سوريا، تحاول تنمية نفوذ عربي مُواز لذلك الكردي، سواءً في منطقة التنف التي أعادت هيكلة الفصائل العربية التي تقاتل تحت إمرتها فيها، أو في الرقة، أو حتى في الشمال الشرقي حيث تحاول حشد ما يمكنها من العشائر بهدف تعزيز حضور المكوّن العربي في التشكيلات المتمركزة هناك. أيضاً، تعمل القوّات الأميركية، وفق المصادر، على تأهيل القاعدة التي كانت تتمركز فيها في مقرّ «الفرقة 17» توطئةً للعودة إليها، في الوقت الذي قدّمت فيه تعهّدات لعلوش بدعمه مالياً حتى يتمكّن من إعادة بناء فصيله، فضلاً عن إمداده بالسلاح والإشراف على عمليات تدريب مُقاتليه، علماً أن زعيم «ثوار الرقة» طلب ضمانات واضحة بعدم تعرّضه وفصيله للمضايقات من قِبَل «قسد» و«حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقودها.
في هذا الوقت، أثارت الزيارة التي قام بها رئيس «الاتحاد الوطني الكردستاني»، بافل طالباني، إلى الحسكة، حيث التقى قائد قوات «قسد»، مظلوم عبدي، تكهّنات عديدة حول أسبابها، خصوصاً أن اللقاء شارك فيه قائد قوات «التحالف الدولي»، ماثيو ماكفرلين، وأنها تأتي في وقت يُعتبر حسّاساً بالنسبة إلى كلّ من «قسد» و«الاتحاد». وبحسب مصادر كردية مطّلعة تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن الأطراف الثلاثة ناقشوا باستفاضة ملفّ «محاربة الإرهاب»، وسُبل تعزيز التعاون في هذا المجال، بالإضافة إلى ملفّات أخرى بعضها تجاري يتعلّق بتبادل السلع بين الطرفَين (قسد وكردستان العراق). وتَعتبر المصادر أن طالباني تعمّد الحضور باللباس العسكري لإضفاء «الطابع المناسب» لفحوى الزيارة (محاربة الإرهاب)، وإيصال رسائل إلى مُنافسيه في كردستان العراق تتعلّق بمدى أهمية حزبه على مستوى العلاقات الكردية - الكردية، خصوصاً في ظلّ التوتّر الحالي بينه وبين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود برزاني. وإذ تَلفت المصادر إلى أن ماكفرلين ناقش إمكانية توسيع قنوات التواصل الكردي البيْني، فقد أكّدت أن ثمّة توجّهاً أميركياً واضحاً لترسيخ وجود «قسد» و«الإدارة الذاتية»، وإضفاء طابع «شرعي» على سلطتهما، بهدف منع أيّ خطوات لاحقة لإنهاء «الذاتية»، بل ودفْع أنقرة إلى الانفتاح عليها مستقبلاً، ضمن المخطّط القديم الذي تحاول واشنطن إحياءه كمسار بديل للمسار الروسي للحلّ في سوريا. أيضاً، تتطلّع الولايات المتحدة، وفق المصادر، إلى تعزيز وجودها العسكري عبر تعميق اتّصاله بشعار «مكافحة الإرهاب»، بهدف تلافي الضغوط المتزايدة عليها، خصوصاً أن الخطّة الروسية للتطبيع بين دمشق وأنقرة تقوم على محدّدات رئيسة أبرزها رفض ذلك الوجود ومحاولة إنهائه.