«حان الوقت للجلوس إلى مائدة التفاوض... وإنهاء حرب اليمن». أعادت الخارجية الأميركية مساء أمس، وكأنها تريد إفهام السعودية المصدومة أن الإعلان ليس من قبيل المناورة. مع ذلك، لا تزال القوى الوطنية في صنعاء مُتشكّكة إزاء دعوة الولايات المتحدة، خصوصاً أنها تأتي في توقيت مريب. تشكّك تسنده في الواقع معطيات عديدة، إلا أنه لا ينفي بالضرورة وجود نية لدى إدارة دونالد ترامب لإنهاء الحرب، لأسباب عديدة على رأسها أن كلفة تغطية الجريمة باتت أعلى بكثير من عوائدها.عند كل مفصل من مفاصل العدوان على اليمن، كانت الراية البيضاء تلوح من خلف غبار المعارك الخاسرة التي قادتها السعودية والإمارات. لكن تعنّت ولي العهد محمد بن سلمان، مشفوعاً بتوهّم «عيال زايد» القدرة على قلب المعادلات الضاربة في تاريخ اليمنيين، حالا دائماً دون العودة إلى الواقع، والإقرار بعبثية حرب طالت وارتدّت سلباً على مشعليها. في خضمّ ذلك، كانت الولايات المتحدة، قبل دونالد ترامب وبعده، لا تجد ضيراً في إدامة العدوان ما دام يعود عليها بمنافع لا يمكن إبقاؤها من دون استمرار «حمّام الدم» اليمني، وهي ظلّت حتى وقت قريب قادرة على لجم دعوات المشرّعين والمنظمات الحقوقية إلى وقف الدعم الأميركي لـ«التحالف». إلا أن جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، جاءت لتكشف الصورة على حقيقتها الأكثر قتامة: أمير متهوّر، يعجز عن كبح جماح «متمردين» في جوار بلده، ويفرّغ عجزه في إبادة الأطفال، وفوق ما تقدّم يجرؤ على اغتيال صحافي هو من ضمن «الجوقة» الغربية المؤيدة لوقف الحرب. لم تكن تصفية خاشقجي إلا الدفعة التي أوصلت السيل إلى الزبى، ولو أن ابن سلمان استطاع تحقيق نصر سريع ونظيف في اليمن لما تسابق الغربيون على «نهش لحمه» مثلما وقع عقب حادثة القنصلية.
إزاء ذلك، بات صعباً على إدارة ترامب الدفاع عن حرب تلاحق لوثتها الرئيس الأميركي نفسه. عملياً، باتت المفاضلة بين الاستمرار في تغطية المذبحة ومستقبل ساكن البيت الأبيض، خصوصاً في ظلّ تقديرات بأن الكونغرس ـــ في حال فوز الديمقراطيين بالانتخابات النصفية ـــ سيتّجه إلى التصويت على وقف الدعم الأميركي لعمليات «التحالف». من هنا، يأتي ترامب لـ«يبيعها» للرأي العام: أنا من سيوقف حرب اليمن. منذ يوم السبت الماضي، بدأت الإشارات الأميركية في هذا الاتجاه. خرج وزير الدفاع، جيمس ماتيس، من على منبر مؤتمر «حوار المنامة»، ليقول إن «الوقت حان للمضيّ قدماً في وقف هذه الحرب». بدا واضحاً في تصريحات ماتيس، على رغم ما حملته من علامات «خبث»، أن ثمة اعترافاً بحقيقتين لطالما جرت المكابرة عليهما: أولاهما أن الحرب ـــ بالدرجة الأولى ـــ هي بين اليمن وبين السعودية والإمارات، وهو ما أعاد ماتيس التطرق إليه ليل الثلاثاء ــــ الأربعاء بقوله إن الرياض وأبو ظبي مستعدّتان لـ«المضي في الأمر» (يقصد وقف الحرب). قد يبدو هذا بديهياً، إلا أنه في الواقع يعني الكثير في ما يتصل بجدّية الدعوة الأميركية هذه المرة، بعدما كان يجري في السابق التلطي خلف الطرف المحلي الموالي لـ«التحالف»، والذي لا يملك إرادته، وتصوير السعودية بوصفها وسيطاً، وذلك بهدف تسويف الحلّ. أما الحقيقة الثانية، فهي أن «الحوثيين» موجودون، وأصحاب نفوذ، ولا مجال لشطبهم وإعادتهم إلى «كهف مرّان» مثلما كان مُقرّراً لـ«عاصفة الحزم» أن تفعل. صحيح أن حديث الوزير الأميركي عن «الحكم الذاتي» يستبطن «نيات تفتيتية» مثلما رأت «أنصار الله»، إلا أنه يُعدّ في الوقت نفسه إقراراً ضمنياً بالعجز عن إسقاط الحواضر الاستراتيجية ذات الكثافة السكانية العالية.
شهد الساحل الغربي خلال الساعات الماضية عمليات تحشيد كبيرة


هذه العلامات الفارقة في الحديث الأميركي المستجدّ عن اليمن، عاد وزير الدفاع وعزّزها ليل أمس بقوله: «(إننا) نريد وقف إطلاق النار... وأن يجلس الجميع على طاولة المفاوضات خلال 30 يوماً». ولعلّ قيام ماتيس بتحديد إطار زمني، للمرة الأولى في سياق المواقف الأميركية من حرب اليمن، يمكن عدّه أيضاً علامة إضافية على طابع جادّ يَسِم المبادرة. وما عزّز ذلك الانطباع انضمام وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى زميله ماتيس، في الدعوة إلى استئناف المفاوضات في تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي من أجل البحث خصوصاً في «إخلاء الحدود من الأسلحة، وتركيز كل الأسلحة الثقيلة بأيدي مراقبين دوليين». وعلى غرار وزير الدفاع، رأى بومبيو أنه «حان الوقت لوقف الأعمال العدائية، بما في ذلك إطلاق الصواريخ وغارات الطائرات المسيّرة»، متابعاً أن «الغارات الجوية للتحالف يجب أن تتوقف بعد ذلك». وعلى عادتهم في الحذو حذو الأميركي حرباً أو سلماً، سارع الأوروبيون إلى تبنّي مبادرة ماتيس، بدءاً من وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي التي شدّدت على ضرورة «الوصول إلى حل سياسي»، مروراً بوزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت الذي وصف إعلان الولايات المتحدة بأنه «محلّ ترحيب شديد»، وليس انتهاءً برئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي أكدت «(أننا) ندعم الدعوة الأميركية».
هذا الدفع الغربي الجماعي نحو وقف الحرب بدا مباغتاً للسعودية والإمارات، اللتين التزمتا الصمت، إلا من منشور لوزارة الخارجية السعودية على «تويتر» حذّر من «نشوء حزب الله جديد (في اليمن)». وعلى رغم أن الرياض وأبو ظبي قد تحاولان مقاومة «الأمر» الأميركي، إلا أنهما ستجدان في نهاية المطاف نفسيهما مرغمتين على التسليم له، على اعتبار أنْ لا إمكانية لاستمرار الحرب من دون دعم واشنطن وتغطيتها. وفي انتظار ترجمة عملية للدعوة الأميركية، ستحاول السعودية والإمارات ـــ على ما يبدو ـــ كسب الوقت في السعي لتحقيق إنجاز ميداني يحسّن أوراق التفاوض. هذا ما أوحت به، أمس، معلومات توافرت لـ«الأخبار» عن استعدادات كبيرة لاستئناف الحملة على مدينة الحديدة. إذ أفادت مصادر عسكرية من «أنصار الله»، «الأخبار»، بأن قيادة «التحالف» جهّزت أكثر من سبعة ألوية لـ«الزحف على المدينة من 3 إلى 4 محاور»، متوقعة أن «يبدأ التصعيد غداً (اليوم)». استمرار التحشيد على الأرض هو واحد من المعطيات التي تجعل «أنصار الله» مُتشكّكة إزاء الإعلان الأميركي، الذي تصفه المصادر نفسها بأنه محاولة لـ«ذرّ الرماد في العيون».
وفي الاتجاه نفسه، تذهب مصادر سياسية من «أنصار الله»، طارحة في حديث إلى «الأخبار» الكثير من علامات الاستفهام حول مبادرة ماتيس. من ناحية التوقيت، تأتي هذه المبادرة «تزامناً مع الانتخابات الأميركية، وهو ما يجعلها أقرب إلى محاولة للتخفّف من الضغوط المتصاعدة على إدارة ترامب، على خلفية أزمة خاشقجي». أما من ناحية المضمون، فمن المستغرب بالنسبة إلى الحركة دعوة بومبيو إلى وقف هجمات الجيش واللجان ومن ثم غارات «التحالف»؛ إذ إن «الأميركيين هم من بدأوا الحرب، وهم المعنيون بوقفها»، وما الجيش واللجان إلا في موقع دفاعي (لكن الخارجية الأميركية عادت، مساء أمس، وتراجعت عن هذا الترتيب، بدعوتها إلى وقف فوري متزامن للأعمال القتالية). وتصرّ المصادر على أن واشنطن لا تزال في مربع «الخداع»، خصوصاً أنها تعيد العزف على نغمة «الأقلمة»، وتقدّم إلى الآن الحلّ الأمني على السياسي، وهو ما رفضته «أنصار الله» على مرّ الجولات التفاوضية الماضية. وإذا كانت القوى الوطنية في صنعاء محقّة في تشكّكها إزاء المبادرة الأميركية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن ليس لدى إدارة ترامب نية لوقف الحرب، ولا سيما أن واشنطن تبدو مضطرة إلى دخول هذا الباب بعناوين كبيرة (من قبيل نزع الأسلحة)، أخذاً في الاعتبار ما سيُتنازَل عنه على الطاولة. على أيّ حال، يظهر الموعد الجديد لمفاوضات السلام، الذي أكد المبعوث الأممي مارتن غريفيث أمس أنه سيكون «في غضون شهر»، كمختبر لصدقية الإعلان الأميركي: إما أن يتكرّر مشهد جنيف وبيل والكويت، وإما أن ينفتح الباب على هزيمة مدوية لابن سلمان تنهي حلمه بالسيطرة على اليمن، وتفتح صفحة جديدة من تاريخ هذا البلد، الذي يتأكد يوماً بعد يوم أنه لن يعود إلى كنف الوصاية السعودية.