بالرغم من أن السلطة الفلسطينية لا تزال، شكلياً، في صميم السياسة الفلسطينية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، غير أنها لم تُحدِث بعد ٢٢ عاماً على تأسيسها سوى تغييرات حقيقية قليلة في طريقة حكم الضفة الغربية. بل إن دور السلطة الفلسطينية في الحكم ضعيف وليس له قيمة من الناحية العملية. هذا الضعف بالتالي سيؤثر في الوضع السياسي الراهن. فالسلطة الفلسطينية، بحسب التفكير التقليدي، والتي تضطلع بدورٍ أساسي في حكم الأرض الفلسطينية المحتلة، غالباً ما توصَف بأنها إنجازٌ وطني لأنها مكَّنت الفلسطينيين من حكم أنفسهم، لأول مرة، على الأرض الفلسطينية. وهي أيضاً الطرف المُحاوِر المفضَّل لدى المجتمع الدولي، بالمقارنة مع منظمة التحرير الفلسطينية. أما بالنسبة إلى إسرائيل، فهي الجهة المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام العام في الضفة الغربية.تولي حكومة السلطة الفلسطينية الحالية اهتماماً بالمسائل الداخلية في المقام الأول، بينما ينفرد الرئيس والمقربون منه في عملية التفاوض مع إسرائيل وإدارة العلاقة بالمجتمع الدولي، رغم أن ذلك من مسؤوليات منظمة التحرير الفلسطينية. وكثيراً ما لا توافق اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الخطوات والقرارات التي يُقدِمُ عليها الرئيس، كاستئناف المحادثات مع إسرائيل دون تجميد الاستيطان. ومثل هذه الأمثلة تشير بشكل واضح إلى نقطة أساسية مفادها غياب الجسم السياسي الفلسطيني الحقيقي والمتماسك أو العامل بانسيابية في الأرض الفلسطينية المحتلة. فالفضاء السياسي الفلسطيني لا يزال ممزقاً ويفتقر إلى سلطةٍ تنفيذية موحدة داخل السلطة الفلسطينية وإلى نظام حكم محدد. ولا تزال السلطة الفلسطينية تعوِّل على أفرادٍ يشغلون مناصب معينة، ولا سيما على علاقاتهم بمجتمع المانحين الدولي الذي يدعم ما يسمى عمليةَ السلام، ولا تزال تحافظ على تعاونها وتنسيقها الأمني مع إسرائيل.
المجال الوحيد الذي أحدثت فيه السلطة الفلسطينية تأثيراً حقيقياً هو قطاع الأجهزة الأمنية

المجال الوحيد الذي أحدثت فيه السلطة الفلسطينية تأثيراً حقيقياً هو قطاع الأجهزة الأمنية. هذا القطاع الذي يضطلع بدورٍ محوري في هيكل السلطة الفلسطينية منذ عام ٢٠٠٧، حيث إن جزءاً كبيراً من المساعدات الخارجية المقدمة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تُرصد لتدريب القوات الأمنية، في حين أن الغالبية العظمى من ميزانية السلطة الفلسطينية مخصصة لقوات الأمن ورواتب مسؤولي السلطة الفلسطينية المدنيين. هذه السياسة المتّبعة من قبل السلطة والتي خلقت شبكةً ضخمة من موظفي الخدمة المدنية وقوات الأمن، ساهمت، وما فتئت تساهم، في استمرار السلطة الفلسطينية وتمكِّنها من الحفاظ على حدٍ أدنى من السيطرة على السكان. وهكذا، فإن العلاقة بين السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية، التي أوجدتها، هي علاقة احتياج وانتفاع متبادل.

الوضع الراهن

من المرجّح أن تستمر فترةُ ولاية السلطة الفلسطينية في الأجلين القريب والمتوسط بسبب استمرار الوضع الراهن الذي يتأثر الى حدٍ كبير بالتجزئة المستمرة للضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا الفصل القائم لا يتوقف على الانقسام بين فتح وحماس لأنه أقدم من انقلاب ٢٠٠٧. جذور هذا الفصل القائم تعود إلى عام ١٩٤٨ حين كانت تخضع الضفة الغربية للسيطرة الأردنية، وقطاع غزة للسيطرة المصرية. وقد فاقمت السياسة الإسرائيلية المتبعة في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ ١٩٦٧، هذا التفتت الذي من المتوقع أن يستمر، وحتى وإنْ وقعت المصالحة، بسبب الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتجذرة.
وقد تكون «حركة حماس» في قطاع غزة هي الكيان الأقل استدامةً مقارنةً بفتح في الضفة الغربية. فقد تمخَّض التغيرُ الحاصل في النظام المصري عام ٢٠١٣ عن رئيسٍ أكثر تعاطفاً مع السلطة الفلسطينية، ومُنكبٍّ على تضييق الخناق على تحركات الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية عموماً في مصر. هذا التحول في السياسة استفادت منه السلطة الفلسطينية بشكل غير مباشر، وقد يساهم أيضاً في إبقائها على قيد الحياة. ولكن في المقابل، قد يساهم هذا التغير في زوال حكم حماس في قطاع غزة.
ولكن حتى وإنْ بقيت حماس في سدة الحكم ــ وبدون اتفاق رسمي بين حماس وإسرائيل ــ فمن المرجح أن يتم التوصل إلى «حل» مؤقت لقطاع غزة. وحلٌ من هذا النوع لن يبتعد عن المنطق الذي استُخدم لتبرير انسحاب أرييل شارون من غزة سنة ٢٠٠٥، كما من المحتمل أن يُسفرَ عن حركةٍ محدودة للبضائع والأفراد من قطاع غزة وإليه عبر الحدود المؤمَّنة مع إسرائيل. ولن يتسنى التوصل إلى هذا الاتفاق إلا بدعمٍ وضمانةٍ من مصر، حكومةً وجيشاً، لأن إسرائيل لا تسيطر على معبر رفح، وهو المعبر الرسمي الوحيد من غزة إلى مصر. وهذا عنصرٌ واحد من العناصر التي يمكن أن تشكل حالةً تُسمى «الوضع الراهن المطوَّر»، والتي هي بمعنى آخر شكل من أشكال استمرار الوضع الراهن مع بعض التغييرات التي تعمل تدريجاً على تعزيز التفتيت القائم على الأرض الفلسطينية من جهة، واستمرار سياسة التمييز العنصري في الأرض الفلسطينية المحتلة.

الوضع الراهن المُطوّر

«الوضع الراهن المطوَّر» هو الوصف الذي ينطبق على دولة فلسطين المعدومة السيادة والمعتمدة كلياً على مجتمع المانحين الدولي وإسرائيل. وهذا يعني أن السياسات الإسرائيلية الحالية الرامية إلى زيادة المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإنشاء نظام مزدوج في الضفة الغربية؛ أحدهما للمستوطنين والمواطنين الإسرائيليين والآخر للسكان المحليين، سيترسخ بمرور الزمن. كما ستنحصر مسؤولية السلطة الفلسطينية بالسكان الفلسطينيين المحليين، دون أي سلطةٍ تجاه الإسرائيليين. وفي سبيل استدامة هذا الوضع، ستُبقي السلطة الفلسطينية على التزامها في تنسيقها مع إسرائيل، وذلك لإبقاء السكان المحليين تحت السيطرة. وهذا النظام، بطبيعة الحال، يلبي جميع المتطلبات والشروط الضرورية لمأسسة نظام الفصل العنصري. وبالتالي، ستقتصر وظيفة السلطة الفلسطينية على العمل كوسيط لدى الشعب الفلسطيني في ظل نظام الفصل العنصري هذا. ولن تكون سلطةً وطنية مركزية، بل ستتكون من مجموعة من النخب السياسية والاقتصادية، وأجهزة الأمن والإدارة المدنية، والتي يمكن تسميتها "البيروقراطية الفلسطينية". تدريجاً، ستزداد هذه المجموعة تواطؤاً في ما يتعلق بهيكل الفصل العنصري في الضفة الغربية، بحيث تتربح تلك النخب السياسية والاقتصادية من الامتيازات التي تقدمها سلطة الاحتلال. كما ستواصل إسرائيل بناءَ مستوطنات جديدة، وسيُمعن جدارُ الفصل العنصري في تفتيت المناطق المأهولة في الضفة الغربية من أجل إدماج معظم المستوطنات الإسرائيلية ووادي الأردن. وبفضل الأرباح المكتسبة من وراء «دولة فلسطين» المعترف بها حديثاً، سوف تنفصل البيروقراطية الفلسطينية حينها على الأرجح عن منظمة التحرير الفلسطينية، أو عن الكيان الذي يدعي تمثيل الفلسطينيين في الشتات.
هذا الوضع الراهن المطوَّر قد يحتم على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أن تبحثَ عن مصادر لبسط «سيادتها» على المناطق الواقعة خارج رقعتها الجغرافية المتصلة، أو السيطرة الموحدة على السكان. وفي سبيل تحقيق هذا الأمر، ستسعى السلطة الفلسطينية إلى زيادة التعاون مع السلطات الأردنية، وسوف ينطوي سعيها لتعزيز العلاقات مع الأردن، على الأرجح، على مخططات سابقة مثل إقامة الكونفدرالية قبل إقامة الدولة الحقيقية، الأمر الذي سيلقى قبولاً لدى الطرفين الإسرائيلي والأردني.

«اللادولة» أو أكثر من دولة

نظام الوضع الراهن المطوَّر هذا لن يكون نظاماً مستداماً على المدى الطويل، لأنه لن يلبي حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. ويعتقد الكثيرون أن هذا الواقع المستقبلي سيؤدي إلى موت حل الدولتين، لكن البديل لن يكون حلَّ الدولة الواحدة، كما هو سائد، وإنما حل «اللادولة». ويعني هذا «الحل» إدامةَ سلطات الحكم الذاتي الفلسطينية وتعزيزها، ولكن في مجالات تحددها السلطات الإسرائيلية. وهذا سينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة على نحو منفصل، بل ويمكن أن ينطبق بشكل منفصل على مناطق مختلفة في الضفة الغربية.
من المتوقع إذا ترسخت حالة «الوضع الراهن المطور» أن يُفضي «حل اللادولة» في الأجل المتوسط إلى حل الدول الثلاث، على الأقل. فبالإضافة إلى إسرائيل التي ستحتفظ بالأراضي التي حصلت عليها في ١٩٤٨ والأراضي التي ضمتها بتوسيع مسار جدار الفصل العنصري، سوف يُنشئ الفلسطينيون دويلةً في قطاع غزة منزوعةَ السلاح، محميةً ومدعومةً من الحكومة المصرية. وستنشأ دولةٌ ثالثة في الضفة الغربية باستثناء القدس الشرقية. وستظهر هذه الدولة كهيكلٍ اتحادي عرقي يوفر حيزاً لليهود المستوطنين، وحيزاً للسكان الفلسطينيين المحليين، ولكنه في واقع الأمر سيكون نظامَ فصل عنصرياً سيصبح بمرور الوقت دولةً ثنائية القومية. وبمرور المزيد من الوقت، يمكن أن تندمج في إسرائيل أو ربما تأخذ مسارها المنفصل، وبالتالي تساعد إسرائيل على أن تصبح دولةً ذات صبغةٍ يهودية متزايدة. وإذا بقيت دولة الفصل العنصري (ثنائية القومية) منفصلةً عن إسرائيل، فلن تعترف بها أي دولة سوى إسرائيل. وسوف تقيم إسرائيل مع تلك الدولة علاقةً متغيرةً بحسب مقتضى الحال على غرار علاقة تركيا بقبرص التركية.
هذه الدولة، دولة «الضفة الغربية/ الاستيطانية»، أو ربما قد تسمى دولة «يهودا والسامرة»، ستعمل على الحفاظ على أمن إسرائيل وحدودها. ووجود السكان الفلسطينيين في تلك الدولة سيساعد إسرائيلَ في تعزيز علاقاتها بالدول العربية في المنطقة، ويساهم في إدماج إسرائيل في الشرق الأوسط. تلك الدولة قد تساعد إسرائيل في سحب الجنسية الإسرائيلية من مواطنيها الفلسطينيين من دون ترحيلهم الى خارج إسرائيل وذلك لتجنب ردة فعل المجتمع الدولي الذي لن يتعاطف مع الترحيل القسري للسكان. وبالتالي سيصبح هؤلاء الفلسطينيون مواطنين في دولة ثنائية القومية الجديدة.
قد لا يمكن لحلّ الدولة الواحدة أن يكون البديلَ الوحيد المتاح بالضرورة. بل إن الوضع الراهن مرشحٌ بقوة ليستمر ولكن مع بعض التغييرات، التي من شأنها أن تؤدي إلى وضعٍ راهن مطوَّر. وهذا قد يُفضي في المدى المتوسط إلى حل اللادولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي يمكن أن يتطور بدوره إلى حل الدول الثلاث: دولة فلسطينية، دولة يهودية ودولة ثنائية القومية أو اتحادية عرقياً بمسماها الرسمي، ولكنها في واقع الأمر نسخةٌ محدثة من نظام الفصل العنصري تضطلع فيه النخب البيروقراطية الفلسطينية بدور المتحاور مع السكان المحليين.

السيناريو الثوري

من المرجح أن يقود السيناريوان الأوليان إلى «الاستقرار» في الأجلين القريب والمتوسط، وسيؤدي السيناريو الثالث إلى المزيد من الانقسام في الجسم السياسي الفلسطيني. غير أن الاستقرار الذي ستجلبه هذه السيناريوات المحتملة ليس حقيقياً. وسوف يَنتج حصراً من تدجين السكان المحليين واحتوائهم، ومن إدارة الضغوط الإقليمية والدولية. وهذه الترتيبات غير مستدامة في الأجل البعيد لأنها مبنية على كيان غير شرعي يستخدم القوة للسيطرة على سكان معارضين. وبحسب النماذج التاريخية السابقة، فإن نظاماً كهذا قد يستمر لبرهة من الوقت، ولكنه لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى.
إذا وُجِدَ مناخٌ إقليمي ودولي مؤات أكثر مع مرور الوقت، فقد يوجدُ سيناريو رابع «ثوري بطبيعته»، وقد يصبح بديلاً للوضع الراهن، والوضع الراهن المطوَّر، وحل الدول الثلاث. وهذا الخيار الثوري بطبيعته لا يمكن التنبؤ به. غير أنه إذا، أو متى، ما حدث فإن أحداً لن يستطيع أن يفسِّرَ كيف صمدت الخيارات الأخرى لفترة طويلة.

* يستند هذ المقال إلى ورقة نشرت على موقع «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية»: تحت عنوان «السلطة الفلسطينية: سيناريوات الوضع الراهن المقلقة»
** أستاذ مشارك في القانون العام في جامعة بير زيت