ظاهر ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أمس عن الذهاب أولاً إلى الاستشارات النيابية الملزمة الاثنين، ومن ثم يُعرف الرئيس المكلف تأليف الحكومة، يختلف عن باطنه ومفاده أن التفاوض مع الرئيس سعد الحريري لم تُوصد دونه الأبواب. لم يقل نصرالله صراحة بأن الكتلة النيابية للحزب سترشح الحريري، شأن ما أدلى به معظم الكتل الرئيسية. بيد أنه حدّد اللاءات التي تقف عند حدود ما بعد الاستشارات النيابية الملزمة، ولا يوافق عليه في الاستحقاق الحكومي: لا لحكومة اللون الواحد من أي جهة أتت، ولا لحكومة يرأسها الحريري بشروطه. على أن معظم ما تناول تركّز على مواصفات الحكومة أكثر منها مواصفات رئيسها. ذلك ما توخّته بضع ملاحظات انطوى عليها كلامه:أولها، إن عدم جزمه بترشيح الحريري لا يعني الذهاب إلى سواه، بل يمسي أقرب إلى تأكيد المؤكّد. وقد لا يكون الوقت، في هذا الظرف بالذات، مؤاتياً لتكرار ما حدث في الاستشارات النيابية الملزمة في كانون الثاني 2011، عندما ترشح لها الحريري في مواجهة الرئيس نجيب ميقاتي، وخسرها بفارق ثمانية أصوات، سارع على إثرها لإشعال الشارع الطرابلسي مذهبياً والتنكيل بميقاتي على أنه رئيس حكومة قوى 8 آذار كغالبية نيابية جديدة مرة، ورئيس حكومة حزب الله مرة أخرى.
هذه المرة ليس ثمّة خصوم للحريري داخل طائفته، ولا الرؤساء السابقون للحكومة يريدون منافسته على دخول السرايا الآن، ولا ثنائي حزب الله وحركة أمل في وارد معاقبته على غرار إطاحة حكومته عامذاك ويريد إقصاءه. بل ناداه إلى رئاسة الحكومة بشروط التوافق معه. على نحو كهذا لا يزال الحريري - رغم اعتذاره عن الترشح وعدم عودته عن هذا الاعتذار - المرشح الأوفر حظاً لحزب الله قبل أي من الأفرقاء الآخرين. أضف أن الرجل متمسك بدوره بالبقاء في السرايا، ويُخطئ مَن يعتقد أن في وسعه التخلي، في هذا الوقت بالذات، عن منصب مثّل له على الدوام حصانة صلبة ومنجم مكاسب. اعتاد غالباً، في كل مرة يؤلف حكومة، رفع سقوف شروطه إلى الحد الأقصى، ثم يعمد بنفسه إلى خفضها تدريجاً كي يتمكن من ممارسة الحكم. وهو ما سيفعله في الحكومة الجديدة باسم الاستقرار.
ثانيها، لم يرمِ نصرالله في كلامه البارحة سوى إلى مناقشة مواصفات الحكومة الجديدة أكثر من رئيسها، وأكثر من المطلوب منها، حتى في المرحلة المقبلة. من ذلك إصراره على رفض حكومة اللون الواحد، وتمسكه في المقابل بما سماه "حكومة الشراكة" التي لا تعني إلا الوصول إلى حكومة تكنو ـ سياسية لم تعد ملامحها غامضة، سواء في عدد وزرائها أم في توزّع الحقائب على وزراء اختصاصيين، على أن ينضم اليهم وزراء سياسيون ليسوا من الباب الأول الذي اعتادته حكومات ما بعد اتفاق الدوحة، ومن غير النواب. ما يفضي إلى الاعتقاد - دونما أن تكون ثلاثينية على جاري العادة حينما تضم أوسع تمثيل للكتل النيابية الرئيسية - بأنها "حكومة وحدة وطنية" مغطاة بقشرة حكومة مختلطة. أبرز مقوّمات هذه القشرة أن الكتل، وليس رئيس الحكومة كما يرغب، هي مَن تُسمّي الوزراء الاختصاصيين ووزراء الباب الثاني أو الثالث السياسيين. بذلك سيتعذّر على الرئيس المكلف توقّع إطلاق يده في تأليف الحكومة، في معزل عن القوى والكتل الرئيسية، الشريك الفعلي في إدارة التأليف أياً تكن مواصفات الوزراء.
ثالثها، لم يشترط الأمين العام للحزب، خلافاً للمرات التي تناول فيها منذ 17 تشرين الأول الحراك الشعبي والأزمة الحكومية، علناً حكومة تلتزم التوازنات التي نشأت عن انتخابات 2018، ولا توازن القوى السياسي المعمول به منذ اتفاق الدوحة، ولا خصوصاً وضمناً اشتراطه تمثّل سنّة من غير فريق الحريري وتيار المستقبل على غرار توزير ممثل للنواب السنّة العشرة المستقلين في الحكومة المستقيلة. على أن المرونة التي أظهرها نصرالله، في ما بدا أنه يريد استيعاب المأزق الحكومي الحالي، طلب بإزائها من الحريري مرونة مماثلة، في إشارة مباشرة إلى إصرار الرئيس المستقيل على تأليف حكومة تقتصر على اختصاصيين دون سواهم من التيارات السياسية والأحزاب، تفادياً لاستعادة تجربة الحكومة المستقيلة، كما التي قبلها في هذا العهد.
«حكومة الشراكة» ليست إلا حكومة تكنو - سياسية


بتشدّد ربط الحريري موافقته على التأليف بشرط نظر إليه حزب الله، منذ اليوم الأول، على أنه مستعصٍ ومستحيل التحقيق. وهو ما أعاد تأكيده نصرالله أمس الذي أضاف موقفاً غير مسبوق لا يكتفي بتجاهل نتائج انتخابات 2018 التي فرضت موازين قوى سياسية جديدة انبثقت منها حكومة 2019، وهي الحكومة المستقيلة وأنشأت فيها أكثرية وزارية مكمّلة للأكثرية النيابية، بل لم يشأ أيضاً التحدث عن أي أكثرية في الحكومة الجديدة. قَصَرَ القول على أن الغالبية النيابية تمسك المبادرة في مجلس النواب، وهي التي ستمنح الحكومة الجديدة الثقة.
رابعها، رغم أهمية المواصفات التي يتحدث عنها نصرالله في الحكومة الجديدة، إلا اأن المهم بالنسبة إليه - وإن من غير الجهر بترشيح الحريري - ردّ الاعتبار إلى التوازن السياسي على رأس السلطة الإجرائية التي لمّح إليها الوزير جبران باسيل الخميس عندما تحدث عن "الميثاقية" في كل من رئاسة الحكومة وعضويتها. لم يكن من السهل لحزب الله، كما لحلفائه في الحكم، ممارسة ضغوط مزدوجة على الحريري كي يسمّي رئيساً للحكومة ليس هو، او يقترح اسمه، او يوافق على اقتراح سواه به، وفي الآن نفسه إلزامه المشاركة في حكومة لا يرأسها ويُدعى - بالإرغام تقريباً - إلى تحمّل المسؤولية عنها، كما عن التدهور الاقتصادي والنقدي الذي ضرب البلاد، ما دامت السياسات المالية والاقتصادية إبان ترؤسه الحكومات، كما من قبله والده الراحل، قادت إلى هذا الانحدار والانهيار الوشيك.