كل ما يجري الآن، منذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري في 29 تشرين الأول، ليس جديداً أبداً، ولا مفاجئاً لأحد، ولا يُفترض بالضرورة أن يكون مفاجئاً. التغيير الحاصل - إن كان ثمّة تغيير - هو في بعض اللاعبين فحسب وليسوا جميعاً، مع أن معظمهم لا يزال في الملعب نفسه. لا تأخير الاستشارات النيابية الملزمة - وهو ليس قاعدة - جديد، ولا الاتفاق على رئيس للحكومة قبل الوصول إلى تكليفه دستورياً مبتكر، ولا التأليف قبل التكليف ابن ساعته، ولا حتماً قبل ذلك كله توزّع حصص الحكومة الجديدة ومقاعدها وحقائبها باكراً مثار عجب واستغراب.كلّ ذلك حدث بالتناوب، قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري إبان الحقبة السورية، عندما لم يقتصر العلم والخبر على معرفة اسم الرئيس المكلف على الدوام، وأحياناً قبل استقالة حكومة السلف الذي هو الخلف نفسه كما مع حكومة 1995، ولا على المعرفة المبكرة أيضاً بأسماء الوزراء والحقائب التي سيحصلون عليها، وبالتأكيد كان الرئيس المكلف - الحريري الأب كما الذين سبقوه إلى منصبه - سلّموا جميعاً بنصاب ثلثي الحكومة الجديدة لدمشق. بعد الاغتيال، باستثناء أهمية مغادرة سوريا لبنان، تغيّر القليل في الطرائق المعتمدة لتأليف الحكومة، المستوحاة دوماً من الحقبة السورية. فرضت معطيات ما بعد اغتيال الحريري الأب قواعد جديدة عام 2005، ثم قواعد سواها عام 2008 وتواصلت إلى الآن.
لذا أتى بيان الرؤساء الثلاثة السابقين للحكومة نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، الأربعاء 4 كانون الأول، ينتقد التأليف قبل التكليف، وما عدّه محاولة النيل من صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، في إشارة مباشرة إلى التعرّض لـ»أهل السنّة»، ناهيك بترشيح مَن لم يكن الدستور قد كلّفه مهمته بعد... أتى هذا البيان، وكأنّ ما حدث يحدث للمرة الأولى، وكأنّ أياً من الرؤساء السابقين لم يختبره فحسب، بل أهمل أنه بنى ترؤّسه حكومته حينذاك على كل هذا «الباطل»، إذا صحّت تسميته. على أن ما حصل وقتذاك لا يبرّر في أي حال تكراره. كان ذلك باستمرار جزءاً من لعبة المناورة وعضّ الأصابع في سبيل الوصول إلى السلطة، بشروط هذا أو ذاك:
1 - إذا أجرى رئيس الجمهورية ميشال عون استشارات نيابية ملزمة في موعدها المقرّر الاثنين (9 كانون الأول)، فيكون انقضى 42 يوماً على استقالة حكومة الحريري. إلا أنه ليس السابقة. فالرئيس نجيب ميقاتي لم يُكلّف، للمرة الأولى تأليف حكومة في 16 نيسان 2005، إلا بعد انقضاء 48 يوماً على استقالة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط، في مرحلة الانقسام الحادّ في البلاد على إثر اغتيال الحريري الأب. بدوره الرئيس تمام سلام لم يصر إلى تكليفه فور استقالة الحكومة الثانية لميقاتي في 22 آذار 2013 إلا بعد انقضاء 13 يوماً عليها في 6 نيسان.
منذ عام 1990، موعد وضع الدستور المنبثق من اتفاق الطائف موضع التنفيذ، ترجّحت الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة ما بين يوم واحد على إثر استقالة حكومة السلف وسبعة أيام، إلى أن كان الرقم القياسي مع حكومة ميقاتي عام 2005. مذّاك لم يؤتَ يوماً على ذكر مهلة ملزمة لرئيس الجمهورية توجيه الدعوة، ولا تنبّه أي من أسلاف عون إلى أن لا مهلة محددة لتوجيه الدعوة الواجبة، ما يتيح للرئيس الاضطلاع بدور رئيسي في إدارة التفاهم السياسي قبل انتقال اللعبة إلى مجلس النواب الذي يختار أعضاؤه الرئيس المكلف. الواقع أن الطريقة التي اتبع فيها أخيراً تطبيق المادة 53، بتأخير الاستشارات النيابية الملزمة وقتاً غير قليل، من شأنها حرمان الرئيس المكلف ـ أي رئيس مكلف من غير انتقاص صلاحياته الدستورية في التأليف ـ فرصة التمادي في التصرّف والمناورة وإهدار الوقت، كي يجعل تكليفه سلاحاً يواجه به رئيس الجمهورية والكتل النيابية المستفتاة كي يؤلّف حكومته.
2 - لم يحتج تمكن ميقاتي من تأليف حكومته الأولى، في 19 نيسان 2005، إلى أكثر من ثلاثة أيام لإبصارها النور، بعدما كان رافق الشهر ونصف الشهر من تأخير إجراء الاستشارات النيابية الملزمة وتكليفه، مفاوضات شاقّة أجرتها معه قوى 14 آذار، وخصوصاً تيار المستقبل والحريري الابن قبل أن يصبح نائباً. قضت الموافقة على ترؤّس ميقاتي الحكومة قبوله بثلاثة تعهدات قطعها لذلك الفريق، هي عدم ترشحه للانتخابات النيابية عامذاك، وضع قادة الأجهزة الأمنية في التصرّف بعد إقصائهم من مناصبهم وإجراء انتخابات نيابية عامة وفق القانون النافذ (قانون 2000). تحقّق ذلك تباعاً، ومهّد لوصول الرئيس فؤاد السنيورة في 19 تموز 2005، أضف إلى الشروط تلك، الإصرار على حكومة ليس فيها مرشحون للانتخابات، قريبة من الأفرقاء دونما تمثلهم المباشر فيها. بالتأكيد فرض الحريري أيضاً لنفسه بعض الحقائب كالداخلية والعدل: الأولى لارتباطها بالانتخابات النيابية الوشيكة والثانية لارتباطها بالتحقيق الدولي في اغتيال والده، فعُهدتا إلى شخصيتين سنّيتين سمّاهما هما حسن السبع وخالد قباني. بذلك لم يصر إلى الخوض في تأليف حكومة ميقاتي قبل تكليفه فحسب، بل فُرضت عليه شروط وتعهدات، ناهيك بوضع اليد على حقائب.
السنيورة هو الأب الأول لتطبيق أعراف اتفاق الدوحة


3 - يدين كل ما تحدث عنه الرؤساء السابقون من مخالفات دستورية في التكليف والتأليف والانتقاص من صلاحيات الرئيس المكلف إلى السنيورة أولاً، الأب الاول لوضع اتفاق الدوحة بكل أعرافه موضع التنفيذ. فهو أول مَن دشّن إمرار وقت طويل على تأليف حكومة، فألّف حكومته الثانية في 11 تموز 2008 بعد 44 يوماً من تكليفه، شهدت مداً وجزراً لم ينتهيا إلا بفرض قواعد لم ينص عليها اتفاق الطائف، بل ناوأته وتحوّلت مذّاك إلى أعراف ثابتة لا تتزحزح، كاقتسام الحصص والحقائب وتحديد الأكثرية الموصوفة والثلث+1 وحصة رئيس الجمهورية وفرض الأفرقاء أسماء وزرائهم، كي تُدرج هذه وتصبح شروطاً ملزمة في كل مرة يُدعى رئيس مكلف إلى تأليف الحكومة. ليس سراً أن خلفاء السنيورة، الحريري وميقاتي مجدداً والرئيس تمام سلام ثم الحريري التزموا هذه الأعراف وفرضوها على حكوماتهم، من غير أن يتذمّر أي منهم أن الأعراف هذه تخرّب اتفاق الطائف. وقتذاك لم يكن السنيورة وحده مَن يؤلف الحكومة، ولا رئيس الجمهورية ميشال سليمان حتماً، بل الأفرقاء شركاؤه في اتفاق الدوحة الذين أضحوا منذ ذلك الحين الشركاء الفعليين في تأليف الحكومة، دونما حاجتهم إلى توقيع المراسيم المنوطة دستورياً برئيسي الجمهورية والحكومة. لم يعد توقيع المراسيم يعدو كونه تكريسَ أسود على أبيض فرضه ولا يزال ائتلاف اتفاق الدوحة.
ذلك ما صحّ أيضاً على سلام، حينما شاع قبل تكليفه أنه الرئيس المكلف، خيار الرياض في منصبه لم يثبت إلا بعد 13 يوماً، ثم تطلّب تأليفه حكومته 11 شهراً وتسعة أيام، شاكياً من تدخّل أفرقاء كثيرين في صلاحياته. بيد أن حكومته لم تبصر النور بفضل الصلاحيات، بل لأن التوافق على توزّع الحصص والحقائب كان ينتظر «شيئاً ما» خارج لبنان أتاح تأليفها، بعدما أوشك أن يفقد الأمل. ثم جاءت مكالمة الرئيس الأميركي باراك أوباما له، مرتين على التوالي جرّاء انقطاع الاتصال، مهنئاً كي يتيقن.