خلف كواليس لعبة النار في الشمال السوري، مجموعة لقاءات ثلاثية وثنائية حدّدت معالم المعركة الحالية. الأساس في ما يدور، هو قرار دمشق التوجّه نحو تحرير مدينة إدلب، بالإضافة إلى تأمين طريقَي «دمشق ــــ حلب» و«اللاذقية ــــ حلب». هذا التوجّه كان جزءاً أساسياً من اجتماعات ضمّت إسماعيل قاآني وحقان فيدان، وأخرى جمعت علي مملوك وحقان فيدان، وثالثة روسية ــــ تركية ــــ إيرانية. وفيما تعمل دمشق على تحصيل «الجغرافيا الكاملة» على دفعات، تحضر معادلات الشمال التي ترتسم حالياً على جدول أعمال الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان يوم غد.لم تكن عودة السخونة إلى الميدان في الشمال السوري في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الماضي مجرّد خروقات لـ«اتفاق الهدنة» على جبهات حلب وإدلب. إذ يأتي التدحرج بالنار، الحاصل منذ شهر ونصف شهر، ضمن مخطّط لدى دمشق وحلفائها، جزء منه قابل للتنفيذ، وآخر يبدو معلّقاً على التفاهمات التركية ــــ الروسية وحدودها. في الشهر الأول من السنة الجديدة، رُتّب لقاء بين الرئيس السوري بشار الأسد ووفد قيادي من المستشارين الإيرانيين. في هذا اللقاء، كان الأسد واضحاً في كلامه عن الوجهة الأخيرة للمعركة المقبلة: مدينة إدلب. جاء ذلك في ختام تأكيد أولوية السيطرة على طريقَي دمشق ــــ حلب (M5)، واللاذقية ــــ حلب (M4). وعلى رغم التوجّه السوري الواضح، جرت عدة لقاءات ثلاثية (تركية ــــ إيرانية ــــ روسية) وأخرى ثنائية، هدفت إلى تجنّب المعارك وحصول الدولة السورية على مرادها بـ«السياسة». وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أنه في أحد اللقاءات الروسية ــــ التركية، أكد الجانب العسكري الروسي أن حدود العملية التي كانت قد بدأت هي فتح الطريقين (دمشق ــــ حلب/ اللاذقية ــــ حلب)، على أن يتمّ وقف إطلاق النار بعد ذلك. لم ترفض أنقرة على نحو حاسم «العرض» الروسي، بل بدأت البحث تقنياً عن «إدارة الطرق»، وعن تسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي عليها (هذا النقاش لا يزال متواصلاً حتى اليوم).

فيدان ــــ قاآني ــــ مملوك
منذ حوالى أسبوعين، جرى لقاء بين قائد قوة القدس في حرس الثورة الإيراني إسماعيل قاآني، ومدير المخابرات التركية حقان فيدان. في هذا اللقاء، حمّل الجانب الإيراني أنقرة مسؤولية انفجار الميدان، معتبراً أن «ما يحصل سببه عدم التزام الجانب التركي بالاتفاقيات المعقودة سابقاً»، وأكد أن الجانب السوري، بدعم إيراني، سيواصل العملية «حتى فتح الطريقين»، مشدّداً على أن «المطلوب الآن اتفاق جديد». خلال تلك الفترة أيضاً، التقى فيدان رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك. لم تكن أجواء اللقاء بعيدة عمّا حصل في الاجتماع مع قاآني: «أنتم لم تلتزموا بالاتفاقات، والاتجاه هو لمعادلة جديدة»، قال مملوك. هكذا، وُضعت أمام الجانب التركي الجغرافيا التي سيحرّرها الجيش السوري، والتي تُبقي لأنقرة شريطاً حدودياً ضيّقاً، يصل في حدّه الأقصى إلى عمق 8 كيلومترات، ويمتدّ من بلدة أطمة شمالاً (المتصلة بقرى عفرين التي تحتلها تركيا)، إلى بلدة حارم فسلقين، وصولاً إلى دركوش فزرزور (تقع زرزور على بعد 14 كيلومتراً شمالي مدينة جسر الشغور). لكن هذه الخريطة رُفضت على نحو قاطع من الجانب التركي، كما أنها سُحبت من التداول معه، لتتمحور الاتصالات حول الطريقين الدوليين فقط.
الأسد في لقاء مع وفد عسكري إيراني: وجهة المعركة المقبلة هي مدينة إدلب


بعد تأمين طريق «دمشق ــــ حلب»، بالسيطرة على مدينتَي معرّة النعمان وسراقب، والقرى الممتدة على جانبَي الطريق في ريفَي حلب الجنوبي والغربي، اتّجه الجيش السوري نحو «غير المعلن سابقاً»، بسيطرته على معظم ريف حلب الغربي، وتأمين مدينة حلب على نحو شبه كامل، وكسر نقاط انطلاق قريبة منها للهجوم عليها (كما حصل في بداية تسخين الجبهة في ريف إدلب الجنوبي منتصف شهر كانون الثاني). بعد هذا النجاح «السلس» للجيش السوري وحلفائه، بدأت أنقرة البعث برسائل سلبية في السياسة والميدان إلى الجانبين الروسي والسوري، حيث شرعت في ذلك الوقت في إدخال تعزيزات عسكرية كبيرة للمسلحين علناً، كما بدأت برسم خطّ تماس جديد عبر نشر نقاط عسكرية يتمركز فيها جنود أتراك، تبدأ في الشمال في دارة عزة، وصولاً إلى تفتناز ومحيط سراقب، شرقي مدينة إدلب.
لم يبلع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، سيطرة الجيش السوري على هذه الجغرافيا الكبيرة (زهاء 2000 كيلومتر مربّع) في مدّة قصيرة نسبياً، في وقت أدرك فيه جميع الأطراف أن دمشق وحلفاءها متجهون لتأمين طريق اللاذقية ــــ حلب في المرحلة التالية، لتنطلق لاحقاً عمليات السيطرة على ريف إدلب الجنوبي، والسعي إلى وصله مع سهل الغاب في ريف حماة الشمالي جنوب الطريق الدولي (M4). مذّاك، بدأت أنقرة تلقي ثقلها في المعركة، إذ زجّت بقواتها الخاصّة فيها، إلى جانب مسلحي «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) و«الحزب الإسلامي التركستاني» (معركة النيرب مثالاً). أيام قليلة من القتال، ثمّ أتت الضربة الكبيرة لجنودها في الغارة على قرية بليون في ريف إدلب الجنوبي، لتعلن مقتل 33 جندياً تركياً وجرح العشرات. دفعت هذه الضربة أنقرة إلى وضع كل أوراقها في معركة استعادة مدينة سراقب التي تشكّل العقدة التي يتقاطع فيها طريقا «M5» و«M4». في المقابل، كانت موسكو تحاول الحفاظ على المكتسبات السابقة للجانب السوري من دون قطع الاتصالات والاتفاقات مع أنقرة. أما طهران وبيروت فكانت رسالتهما إلى دمشق بأن «الطريق ستُفتح مهما كلّف ذلك»، وأنهما إلى جانبها. وفي ليلة ما بعد الضربة التي أدّت إلى استشهاد العشرات من مقاتلي الجيش السوري و«حلفاء دمشق»، حينما عادت الكفّة لتميل لمصلحة تركيا، وسط انكفاء روسي عن التدخّل جوّاً، أُرسلت تعزيزات جديدة إلى تلك الجبهة لتُحرَّر سراقب في معركة لم تدم أكثر من 24 ساعة.
اليوم، ابتعد الخطر، نسبياً، عن طريق دمشق ــــ حلب (M5)، فيما العين مجدّداً على طريق اللاذقية ــــ حلب (M4). لذا، عاد التركي وأرسل مقترح الدوريات المشتركة، محدّداً مواقع انتشارها ما بين جسر الشغور وسراقب (جزء من M4)، وما بين معرّة النعمان وسراقب (جزء من M5). لكن المقترح الأخير رُفض، فيما لم يتمّ الرد على الأول «كون M4 غير محرّر بعد». أما الجواب الحقيقي فقد يكون معلّقاً في انتظار لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان في موسكو يوم غد، حيث يمكن أن ترتسم خرائط جديدة. إلا أن ما أظهره الميدان السوري على مدى سنوات الحرب، وخصوصاً في المنطقة الشمالية، هو أن كل الخرائط لديها مدّة صلاحية معينة.